قاسم حجيج والأدب الشعبي الجنوبي العاملي

بدأ جرّ المياه إلى بيوت أهل منطقة جبل عامل في وقتٍ متأخّرٍ من القرن المنصرم، فقد كانت ظروف الاحتلال، والحرب مانعاً إضافيّاً يُضاف إلى التقصير الحكومي في دعم أهالي المنطقة، وكان النبع والساقية والصهريج والبركة من أهم مصادر تغذية البيوت بالمياه، مما كان يُشيع جوّاً من الألفة على أكتاف هذه المصادر.
توجّهنا إلى المؤرّخ والخبير بالذاكرة الشعبيّة غير المكتوبة الأستاذ قاسم حجيج، رئيس بلديّة دير انطار، ليحدّثنا عن الأحوال اليوميّة لعمليات جرّ الميّاه إلى البيوت وعمليات الغسيل التي كانت النسوة تجريها قديماً. يقول الأستاذ قاسم حجيج: “لم يكن هناك مياه في البيوت من أجل غسل الأواني والثياب، ولا حتّى الاغتسال، فالمياه التي تجرّ إلى البيوت على ظهور الدّواب من قبل النسوة والفتيان الصغار، كانت تُستعمل من أجل الشرب حصراً، وبعض الغسل البسيط للأواني، وللاغتسال الاضطراري في الشتاء. أمّا عمليّات غسل الملابس والأواني الكبيرة، فكانت تتم عند ضفاف السواقي والبرك والأنهار. ففي القرى المجاورة لوادي الحجير، كانت النسوة يقصدن مجرى الماء في الوادي جماعات جماعات للغسل والغسيل والاغتسال. وكلّ ذلك كان يجري بمحاذاة الطريق الترابي الواصل بين بلدات بنت جبيل والنبطية ومرجعيون. على الرّغم من ذلك، فإنّ النسوة كنّ يتخففن من ملابسهن، ويتعريّن للاستحمام بجانب ذاك الطّريق متّخذات مما تيسر لهنّ من أشجار وأكم كستارة لهنّ. فالأخلاق السائدة في تلك الأيّام أن عابري السبيل من الرّجال كانوا يغضّون أبصارهم بشكلٍ تام عن التلفّت إلى النسوة اللاتي يغتسلن أو يغسلن ملابسهن. حتّى أنني أذكر أنّ شخصاً ضُبط فيما مضى يتلصص على النسوة المستحمّات، فبقي هذا العار يلحق به، وبسلالته حتّى وقتنا الحاضر”.
وأضاف السيّد قاسم حجيج: “إنّ ذاكرة النبع والساقيّة هي أمر متأصّل في مرويّات أهل المنطقة، فقلّما تجد حادثة مميّزة إلا وجرت على كتف نهر أو ساقية. وكلّ الزجليّات وقصص الحب تتغنّى بالنبع والساقية. فالنبع والساقية كانتا بمثابة وسائل التواصل الاجتماعي السائدة اليوم، فالخاطبات كنّ يحضرن إلى الساقية ليشاهدن الصبايا من أجل أولادهنّ. وكذلك فإنّ النسوة كنّ يتسامرن لساعات على كتف الساقية، فهي المتنفس الوحيد لهن في ذاك العصر”.
مثل شعبي: الواوي بين الشرعة والسكّة
من الأمثال الطريفة في منطقة جبل عامل يقول: “قال الفقير الواوي أكل الشرعة كذّبوه، وقال الغني الواوي أكل السكّة صدّقوه!”، ويُضرب هذا المثل للإشارة إلى النّاس المتملّقة التي في بطانة النّاس الأغنياء، أو ذوي السلطة، الذين يؤيّدون كلّ ما يصدر عن هؤلاء من قول، أو فعل مهما كان غريباً، أو مستهجناً، فقط لأنّهم ميسورون أو متسلّطون.
بسؤال الأستاذ المؤرّخ قاسم حجيج، رئيس بلديّة دير انطار، والسّجل الحيّ للذاكرة الشعبيّة لمنطقة جبل عامل، عن هذا المثل ودلالاته والعبارات الغريبة التي فيه، قال: “يُطلق هذا المثل على بطانة الأغنياء أو ذوي السلطة المتملّقين، الذين يؤيّدون كلّ ما يصدر عن هؤلاء من أقوال، أو أفعال مهما كانت قبيحةً، أو مستهجنة، طالما أنّها صادرة عن هذا الشّخص الميسور أو المتنفّذ. بينما نرى هؤلاء الأشخاص ذاتهم، متشددين جداً مع الأناس العاديين والفقراء، فلا يقبلون منهم أيّ تصرّف مهما كان مقبولاً، أو بسيطاً. أمّا معاني المثل، فالشِّرعة هي قطعة من الجلد البقري غير المدبوغ كانت تُربط بنير الفلاحة. والنّير هو محور خشبي كان يوضع على رقاب الثيران لتثبيتهما والتحكّم بهما من أجل فلاحة الأرض، والشّرعة كانت صلة الوصل مع العود، وهو محور خشبي معترض، يمتد من النير إلى الأرض وتُربط به السّكة. أمّا السكّة فهي قطعة حديديّة لها شفرات تُشبه المعاول أو الرفوش، مهمّتها قلب التربة كلّما تحرّك الثوران”.
وأضاف السيّد قاسم حجيج: “من الطبيعي أن يأكل الواوي الجائع الشّرعة طالما أنّها من الجلد، فالخبر منطقي وقابل للتصديق، غير أنّ المُخبر شخص فقير مهمّش لا قيمة له، وبالتالي فإنّ التكذيب هو مصير هذه الخبريّة. أمّا السّكة والتي هي من المعدن، فمن غير المعقول أن يأكلها الواوي، ولكن طالما أنّ الراوي هو شخص غني ميسور، فإنّ التصديق هو نصيب هذا الخبر. وليتنا نعمل عقولنا في هذا المثل ودلالاته العميقة، فنعطي الأولويّة للخبر الجيّد والمنطقي، والذي يعطينا إضافة إيجابيّة لحياتنا، بغضّ النّظر عن حامل هذا الخبر، والعكس بالعكس. إذ أننا بتنا رهائن للإعلامٍ المبهرج، الذي يبثّ لنا سمومه في قالب جمالي أخاذ يجعلنا لا نحاكم الخبر، بل نأخذه على عواهنه فقط لأنّ المحطّات تلك قويّة ومنتشرة”.