الترحال في ذاكرة جبل عامل

من الأمثال الشائعة في منطقة جبل عامل، مثل يقول: “دار الدني من فقش الموج إلى مرمى الثلج!”، وهو يُقال لمن كان رحّالة في زمانه بحيث خرج من قريته وزار مناطق أخرى عديدة، فهذا الأمر لم يكن متاحاً للكثيرين في الأيّام الغابرة، فالمرء يولد في قريته ويعيش فيها ويموت فيها.
وبسؤال الأستاذ المؤرّخ الاستاذ قاسم حجيج رئيس بلديّة دير انطار، والسّجل الحيّ للذاكرة الشعبيّة لمنطقة جبل عامل عن أصل هذا المثل، أجاب: “نعم لم يكن السفر والترحال معروفاً في المنطقة فيما سبق، فالمرء رهين بيئته التي ولد فيها، فمتطلبات الحياة كانت بسيطة جداً، وتتلخص بالأكل والشرب وما يستر البدن، وكلّ ذلك كان ميسراً للمرء ضمن بيئته، ومن صدف أنّه سافر إلى بلدٍ ما يُصبح بنظر أهل المنطقة شخصاً يسمّونه داير، أي دار بلاد الله، أمّا أصل المثل فهو يرمز إلى صور والتي هي فقش الموج، وجبل الشيخ الذي هو مرمى الثلج، فبنظر أهل منطقة جبل عامل كانت تلك حدود دنياهم”. وأضاف الأستاذ الاستاذ قاسم حجيج أنّه في زمن السلطنة العثمانيّة كان شبّان المنطقة يُساقون إلى الأخذ عسكر أو الخدمة في جيش السلطان، فيزجّون في معارك السلطنة التي لا تنتهي في بلاد الله الواسعة، فكان أحدهم إذا رجع -وكان أغلبهم لا يعودون مع الأسف- يحدّث أهله عن بلاد الله الواسعة التي خدم وحارب فيها، ويحكى أنّ سيّداً من آل عاشور خدم في شرق أوروبا أو الرومللي وعاد بعد عشرين عاماً، كان واحداً من أصل مائة وستين شاباً من منطقة جبل عامل أخذوا في أوائل القرن العشرين، وهو الوحيد الذي نجا من الموت في المعارك، أو الموت من البرد أو الجوائح والأمراض التي تصيب المجنّدين العثمانيين، وقد حدّث أهل بلدته بالأهوال التي رآها على جبهة البلقان، وجاء معه بزوجة من هناك كانت مشهورة بجمالها، وكان له منها ذريّة كبيرة، ومن أطرف ما حدّث به هو قصّة تعارفه بزوجته، إذ أنّه أصيب في أحد المعارك في صدره، كاد يهلك لولا أنّ ممرضة بوسنيّة تولّت أمره بمنتهى الإخلاص حتّى شُفي، وحين استعاد عافيته طلب منها الزواج، وتمّ الأمر، فعاش معها هناك إلى أن أنهى خدمته، ثمّ جاء بها إلى بلدته.